-A +A
علي العميم
في رأي باروت أن الشيخ رشيد رضا – كما مر بنا – حين اختار الاصطفاف مع الدعوة الوهابية كان متناقضاً؛ لأنه كان رئيساً للمؤتمر السوري في عام 1920، والذي أقر دستوراً ينطبق عليه مفهوم الطاغوت من منظور السلفية المذهبية الصلبة.
وأود هنا أن أقدم للقارئ بعض الإيضاحات التاريخية التالية:

لم يكن للدعوة الوهابية لا موقف سلبي ولا إيجابي من حكومة الاتحاديين
(1908 -1914) ولا من إعلان الدستور العثماني عام 1908، ولا من خلع السلطان عبد الحميد عام 1909، ولا من حزب اللامركزية العثمانية الذي أسسه في مصر عام 1912 مجموعة من الشوام، المسلمين والمسيحيين، هم الشيخ رشيد رضا واسكندر عمون ومحب الدين الخطيب وداود بركات وشبلي شميل وسامي الجريديني وحقي العظم وترأسه رفيق العظم، ولا من المؤتمر السوري الذي كان يدعو إلى استقلال سوريا وأقر دستوراً للدولة الجديدة والذي ترأسه الشيخ رضا, ولا من فصل السلطنة عن الخلافة، ولا من إلغائها.
إن من رفع شعار دستورنا القرآن، هو السلطان عبد الحميد الثاني عندما جمد العمل بالدستور في بداية حكمه ورفعته تالياً جماعة الإخوان المسلمين، ولم يرفع هذا الشعار في السعودية إلا في وقت متأخر من رفع الإخوان المسلمين له.
إن من أعضاء المؤتمر الذي أشار إليه، يوسف ياسين وخير الدين الزركلي، وهذان الرجلان صارا فيما بعد من رجالات الملك عبد العزيز وتقلدا مناصب مرموقة في الدولة السعودية. ومن أعضائه الشيخ كامل القصاب الذي عمل وكيلاً للملك عبد العزيز في فلسطين وكان الواسطة بينه وبين رجال الحركة العربية والفلسطينية. ومعظم الرجال الذين استعان الملك عبد العزيز بهم من البلاد العربية كانوا ينتمون- بوصفهم ساسة ومثقفين - إلى أفق الحركة العربية. في الأصل لم يكن هناك تعارض وتناقض بين العروبة والإسلام في الشرق العثماني، فالشيخ كامل القصاب – على سبيل المثال – كان رجل دين ذا توجه قومي. والصحفي والمؤرخ محب الدين الخطيب الذي كان من أعضاء المؤتمر السوري، أسس في مقتبل حياته جماعة النهضة العربية في إستانبول، وكان مساعداً لسكرتير حزب اللامركزية العام, وكان عضوا في جمعية العربية الفتاة السرية، ومعتمد جمعية الجامعة العربية الفتاة في العراق وشرقي الجزيرة، كان سلفياً منذ مطلع حياته.
أغفل باروت في بحثه اسم هذا العروبي السلفي الدمشقي، رغم أهمية اسمه في الفكر السلفي المعاصر. فهو الذي أنشأ في مصر دار نشر أسماها بالمكتبة السلفية، عنيت بنشر كتب التراث السلفي وكان مناصراً للدعوة الوهابية وكان على خلاف رأي صديقه الشيخ رشيد رضا برفض فكرة التقارب السني الشيعي, وألف كتاباً عنوانه (الخطوط العريضة التي قام عليها دين الشيعة الإثني عشرية) وعلق على كتاب تراثي عنوانه (العواصم من القواصم) لابن العربي المالكي، والكتاب الأول والكتاب الثاني – بتعليقاته عليه – هما من الأعمال الأساسية في السجال السني الشيعي من وجهة نظر السنية المذهبية. وبعض أعماله مثل (مع الرعيل الأول, عرض وتحليل لحياة الرسول مع أصحابه) و(الغارة على العالم الإسلامي) الذي ترجمه مع مساعد اليافي – إضافة إلى العملين السابقين اللذين ذكرناهما سابقاً – كانت من ضمن الأعمال الموجه بقراءتها في حركة الصحوة الإسلامية. كما أن جماعة الإخوان المسلمين كانت على صلة به.
محب الدين الخطيب الذي من أساسه كان سلفياً، وكان مطلعاً على الثقافة الحديثة في عصره، يفترض من حيث تصنيف باروت المكاني للسلفية، ينتمي إلى سلفية المناطق الحضرية العربية الإسلامية. وبما أنه حصر تحولات رشيد رضا بموقفه المساجل من الشيعة، فإن موقف الخطيب المعادي للشيعة، هو مثال من بين أمثلة عديدة تدحض تفريقه المفتعل ما بين سلفية المناطق الحضرية وسلفية المناطق البدوية. تثمين السلطان عبد الحميد والدولة العثمانية في أواخر سنيها في مناهج الدراسة في التعليم السعودية بدأ في ما بعد سنة 1980، و كان وراءه الإخوان المسلمون من سورية ومن فلسطين ومن مصر. وكانت الدولة العثمانية في عصرها المتأخر قبل ذلك التاريخ، يقدم تاريخها ضمن الرؤية القومية العربية الكلاسيكية.
زار الشيخ رشيد رضا سورية بعد إعلان الدستور العثماني عام 1908، وألقى درساً في الجامع الأموي، فتحدث عن الدين بكلام عصري تجديدي، فهيج الحضورعليه رجل دين ممن هو مصنف ضمن أعداء التجديد الديني والحرية والدستور، واتهمه أنه وهابي!
وقد تحقق لها التعمق في سياقها والتساوق معه، وكذلك توفر فكرية شمولية فيها والنزوع الثوري في بعض اتجاهاتها واتجاهات السلفية عموماً، بفعل أسباب وعوامل مختلفة ومتباينة، لسنا في صدد الحديث فيها وعنها، كما أن الدعوة الوهابية منذ نشأتها وإلى ثمانينات القرن الماضي، كانت مقصورة على مجالات بعينها، فهي تفتقر إلى الأيديولوجية الشمولية المتوفرة لاحقاً في فكرة الإخوان المسلمين.
ألمحنا في ما مضى، وذلك من خلال سؤال اعتراضي موجه إلى باروت، أن الإخوان المسلمين، لم يتأثروا بموقف رشيد رضا المساجل للشيعة، ويتضح من خلال العرض الذي قدمناه أن من أسباب ذلك أن رشيد رضا ظل برغم مجادلته مع بعض علماء الشيعة، مؤمناً ومتحمساً لفكرة التقريب بين الشيعة والسنة. ومما يجدر ذكره في هذا المجال، أن محاولات محب الدين الخطيب في إقناع الإخوان المسلمين باتخاذ موقفه المعادي للشيعة، قد فشلت.
إن الجانب الذي اختزل باروت فيه تحولات رشيد رضا، يدخل ضمن موضوع هو موقف رشيد رضا من الفرق الدينية القديمة والمحدثة، وموضوع آخر هو استعراض تجربة العلماء والمفكرين الإسلاميين السنة الذين خاب أملهم من فكرة التقارب بين الشيعة والسنة، ومحاولة الوقف على أسبابها، ومن هؤلاء أعلام ليس لهم صلة، بالدعوة الوهابية، لا من قريب ولا من بعيد. لنأخذ على سبيل المثال موقف الدكتور محمد البهي، الذي كان مؤيداً لدار التقريب بين الشيعة والسنة ولمجلتها (رسالة الإسلام)، وكان من الذين آزروا شيخ الأزهر محمود شلتوت في فتواه الشهيرة التي نصت على أن مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الشيعة الإمامية، يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنة. ومع هذا، فإنه في منتصف ستينات القرن الماضي، أبدى ملحوظة نقدية مهذبة إزاء دار التقريب، إذ قال في أحد كتبه:
«وفي القاهرة قامت حركة تقريب بين المذاهب... وبدلاً من أن تركز نشاطها على الدعوة إلى ما دعا إليه القرآن، ركزت نشاطها إلى إحياء ما للشيعة من فقه وأصول وتفسير! ونشر المقالات التي تدعو دعوة (عامة) إلى عدم التفرقة بين المسلمين!». (الفكر الإسلامي والمجتمعات المعاصرة، ص 327).
استحضرت اسم محمد البهي كمثال؛ لأني سآتي بنص له من كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) يحقق أكثر من غرض ينشد كاتب هذه السطور توضيحه.
يقول البهي: «على أن الشيء الذي يبدو فيه ضعف إقبال ثقته ببعض الحركات الإسلامية الحديثة، على أنها تمثل التجديد الفكري في الإسلام، وعلى أنها تمثل الوثيقة المطلوبة للعالم الإسلامي أن يقتدي به. يصف إقبال الحركة البهائية، أو البابية، بأنها من الحركات الإسلامية التي تأثرت بالحركة الوهابية، وليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي... فهو يراها حركة إسلامية واصلاحاً دينياً، مع أن البهائية مزيج عجيب من الثقافات الدينية والفلسفة، فلا يقال مطلقاً: أنها تأثرات بحركة محمد بن عبد الوهاب؛ لأنها نشأت بعدها في القرن التاسع عشر. ويصف حركة التجديد التي قام بها بعض الأتراك المحدثين، وفي مقدمة الدعاة لها الشاعر ضياء كوك ألب بأنها حركة مثالية في إصلاح الفكر الديني في الإسلام، يصح أن تسير في طريقها بقية الحركات الإسلامية الأخرى المعاصرة». ص 485، 486.
ويقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين في كتاب صادر في منتصف سبعينات القرن الماضي: «وأعظم المؤاخذات على دعوة إقبال بالإضافة إلى أنها توفيقية إشادته ببعض الحركات المنتسبة إلى الإسلام واعتبارها نماذج صالحة للتجديد المطلوب في التفكير الديني في الإسلام وهذه الحركات هي: البابية، والصيغة الكمالية في تركيا للإسلام، فهو يعد الحركة البابية بأنها إحدى الحركات الإسلامية الكبرى الحديثة، والتي هي ليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي، كما أنه يمجد الصيغة الكمالية للإسلام في تركيا بحرارة». (بين الجاهلية والإسلام، ص 304).
عند المقارنة بين قول الدكتورالبهي وقول الشيخ شمس الدين، نجد أن قول الأخير، تلخيص لرأي الأول في إقبال لكن بلغته وتعابيره هو. وأرى أنه لم يعزه إلى مصدره ولم يأت به كاملاً؛ لأنه لا يود أن يبدو بمظهر المدافع عن الحركة الوهابية عندما ينفي تأثر الحركة البابية بها!
وهذا يشير إلى شدة وعمق الخصومة المذهبية مع الحركة الوهابية وعمقها، مع أن نفي هذا التأثر، هو إقرار لحقيقة موضوعية التبست على شاعر ومفكر كمحمد إقبال، ونفيها لا يعني بأي حال، أنه يدافع عن الحركة الوهابية. إن ما أخفاه الشيخ محمد مهدي شمس الدين بلباقة، أظهره مرتضى المطهري بصلافة في كتابه: (الحركات الإسلامية في القرن الأخير) الذي يقول مترجمه صادق العبادي عنه، إنه كتب الكتاب في أيام الثورة وقبل انتصارها.
يحدد المطهري تحت عنوان (إقبال ونقاط الضعف) نقاط الضعف عند إقبال والتي يعتبرها نقصاً في أعماله بنقطتين هما: «أنه لم يكن يعرف الثقافة الإسلامية معرفة عميقة. ومع أنه على خلاف السيد جمال الدين لم يسافر إلى الدول الإسلامية، ولم يطلع عن قرب على أوضاع التيارات والحركات والنهضات الإسلامية. ولهذا السبب فإن تقييمه لبعض الشخصيات في العالم الإسلامي وبعض الحركات الاستعمارية كانت تقييمات خاطئة خطأ فاحشاً. فمثلا نرى إقبال في كتابه: (إحياء الفكر الديني في الإسلام) يعتبر الحركة الوهابية في الحجاز(!) والحركة البهائية في إيران، وقيام أتاتورك في تركيا، حركات إصلاحية وإسلامية. وكذلك فإنه يمدح في أشعاره بعض المستبدين والديكتاتوريين في البلدان الإسلامية. إن هذه الأخطاء لا تغفر لمسلم مخلص كإقبال.
قد يكون من المفيد أن أورد نص ما قاله إقبال في كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) الذي ترجمه عباس محمود من الإنجليزية إلى العربية في منتصف خمسينيات القرن الماضي. يقول إقبال عن الحركة الوهابية: «وهي في الحق أول نبضات الحياة في عالم الإسلام الحديث، وقد كانت هذه الحركة مصدر الإلهام بصفة مباشرة أو غيرمباشرة لمعظم الحركات الكبرى الحديثة بين مسلمي آسيا وأفريقيا كالحركة السنوسية، وحركة الجامعة الإسلامية، والحركة البابية التي ليست سوى صدى فارسي للإصلاح الديني العربي». ص180. إن ما قاله إقبال غير دقيق في ناحيتين: الأولى وهي ما قام بتصحيحه الدكتور البهي في نقل سالف منه, فالبابية حركة تولدت عن الحركة المشيخية وانبثقت عنها البهائية, والبابية والبهائية حركتان انشقاقيتان عن المذهب الشيعي, وتعتبران مذهبين مستقلين عنه, مثلها في ذلك مثل القاديانية التي هي مذهب منشق عن المذهب السني ومستقل عنه. والأخرى أن حركة الجامعة الإسلامية ليس لها صلة بالحركة الوهابية.
يقصر المطهري تحت عنوان (أفول الفكر الإصلاحي في العالم العربي) الحركة الإصلاحية على أسماء ثلاثة، هي من حيث أهميتها عنده بالتسلسل: «جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي. ويرى أن الذين أتوا بعدهم ليسوا في مستوى أهميتهم حتى أن فيهم – بسبب بعض الانحرافات – من يعتبرون مفسدين بدل أن يكونوا مصلحين. ذلك أنهم بدل أن يقوموا بعمل إصلاحي قاموا بعمل إفسادي». المرجع نفسه، ص 64.
يطرح بعد إبدائه هذا الرأي، أربعة أسئلة، هي: «لماذا لم تظهر في العالم العربي شخصية أخرى يمكن أن يعتبرها بطلة الإصلاح غير الثلاثة الذين ذكرهم؟ لماذا لم تقم تلك الشخصيات التي ادعت الإصلاح في العالم العربي بعمل متكامل وصحيح من أمثال عبد الحميد بن باديس الجزائري وطاهر الزهراوي السوري (ربما وقع خلط هنا بين اسمي عبد الحميد الزهراوي وطاهر الجزائري) وعبد القادر المغربي وجمال الدين الكاظمي السوري (الأرجح أن الخطأ هنا خطأ المترجم، فالاسم الأخير هو القاسمي وليس الكاظمي) ومحمد بشير الإبراهيمي وغيرهم؟ ولماذا أساساً سقطت جاذبية الحركة الإصلاحية والإسلامية من البلدان الإسلامية؟ ولماذا اجتذبت الحركات القومية والعربية من أمثال البعث والناصرية، أو الحركات الاشتراكية والماركسية الكثير من الشباب العربي؟».
يجيب عن أسئلته هذه بالقول: «شخصياً أعتقد بأن السبب الرئيسي نحو الوهابية (العبارة الصحيحة: هو نحوهم نحو الوهابية) وانحصارهم في الدائرة الضيقة لأفكار هذا المسلك. إن هؤلاء غيروا تلك الحركة الإصلاحية إلى حركة سلفية. ونزلوا في اتباعهم للسنة السلفية إلى حد اتباعهم لابن تيمية الحنبلي. ومن الحقيقة (قول إنهم) حصروا الرجوع الإسلام الأصيل بالرجوع إلى الحنبلية التي تعتبر من المذاهب السطحية في الإسلام، وتغيرت بعد ذلك الروح الذي جعل الحركة الإسلامية التي بدأها السيد جمال الدين تفقد أهميتها وحرارتها. وهو اتجاه أكثر مدعي الإصلاح بعد (حركة) السيد جمال والشيخ عبده الثورية من النضال ضد الاستعمار والاستبداد إلى النضال ضد العقائد التي تخالف معتقدات الحنبليين خصوصاً إبن تيمية الحنبلي» ( المرجع نفسه، ص63، 64، 65).